وتوقف المطر !!
بعد أن انهمرت دموع عيني لتحل مكانه.. ولكن .. دون توقف!
بعد أن جردني من رباطة جأشي وتركني واقفةَ بشرفة غرفتي، أنتظر المزيد.
وأسكب من ماءِ عينايَ حتى يجف وينضب؛ لأغسل به موقعَ جريمتي وأطهر المكان الذي دنستُ فيهِ اسم الحب.. وجعلته يقترن بإسم الخطيئة!!
ذلك المطر أعاد إليّ الذكرى من جديد، لتعود معها أحداث تلك الليلة كالحلم الجميل ولكن هذه المرة لم يكن جرس المنبه من يوقظني منه، ولكنه صوت الضمير الصارخ بداخلي.
كانت ليلةً كغيرها من الليالي، حيث كنتُ أتمدد على الصوفا بمنتصف شرفتي، لتلاعب نسمات الهواء خصلات شعري البني، وليخطف بريق النجوم بصري لأصحوَ فجرأً على صوت صياح الديك.
ولكنني يومها لم أصحو على صوته!! بل على صوت همساتٍ في أذني تقول: (حبيبتي لقد عدت!!)
(يوسف) فتحتُ عيني لأصدقَ أذني، إنه فعلاً يوسف، رفيق طفولتي وصباي قد عاد من رحلة دراسته الطويلة ببلاد الغربة، لقد كبر حقاً، أصبح رجلاً أسمراً عريض المنكبين، طويل القامة، ذو ملامح عربية يصعب على العين تجاهلها.
(كيف حالك ؟ متى وصلت ؟ لماذا توقفت عن مراسلتي في الأشهر الثلاثة الأخيرة ؟ أنظر إليك تبدو.. تبدو مختلفاً.. لقد.. اشتقت إليك يا يوسف)
كنت أريد أن أخبره بأحوالي طيلة هذه السنين بلحظة وأتكلم بسرعة لدرجة أني نسيت أن أتنفس !
يوسف: (تنفسي، واهدئي وتوقفي عن طرح الأسئلة ودعيني أراكِ يا ملاكي الصغير، لقد كبرتِ، دعيني ألتقط أنفاسي بعدها سوف أجيبكِ على جميع تساؤلاتك.. أولاً أنا بخير وقد وصلت قبل قليل واعلمي أني أتيتكِ قبل أن أتجه لمنزل أهلي فقد أردت رؤيتك بشدة طوال هذه السنوات.. لقد افتقدتك يا حبيبتي..)
واسترسل يوسف في الحديث عن رحلته و معاناته خلالها، ولكني لم أكن أصغي لما يقول، فقد كنت أتامله وقد جاء والشوق في عينيه يحكي قصة فراقه لي، عاد إليّ واللهفة تتآكله ليضمني كما كان يفعل حينَ كنا صغاراً.. ولكن!!!
(يوسف لم نعد صغاراً أترك يدي) أقولها مخطوفة الأنفاس، لأغرقَ في سعادتي بعودته.
ويلف الصمت معظم كلامي، لأسمع تعابيرَ اشتياقه وأتأمل تفاصيل وجهه، وتنتهي جميع الأحاديث التي لا تنتهي، ونكتفي بالنظر كل منا للآخر، لرؤية ما فاتنا طيلة هذه السنوات التي مرت ونحن بعيدين، فيقاطع المطر أحاديث أعيننا التي كانت تجري بصمت، ويقتحم جلستنا بقطراته، فأخذ يوسف بيدي وأسرع باتجاه داخل الغرفة حيث تركت يده لأغلق باب الشرفة، وكان المطر قد بلل ثوب نومي الأبيض القطني، وجعله يلتصق بجسدي مظهراً معالم أنوثتي بشكلٍ ملفت، مما جعل يوسف يبادر بعبارة مفادها أنني أصبحت أجمل وبت أكثرَ نضجاً وجاذبية للعيان، أحمرت وجنتاي خجلاً فتناولتُ وشاحي الأبيض الشفاف، لففتهُ حولي كالعباءة وحاولت تغيير موضوع الحديث
(يوسف.. كيف وصلت لشرفتي؟) سألته
فأجابني ضاحكاً: (كما وصل روميو لشرفة حبيبته جولييت دون أن ينتبه الحرس، عزيزتي ألا تعرفين أنني أستطيع أن أكون أقرب لكِ من ظلك ؟ وحتى من أنفاسك) قالها وهو يقترب مني شيئاً فشيئاً حتى أصبح قريباً جداً مني لدرجة أني حبستُ أنفاسي فلو تنفستُ لامتلأ صدري بالهواء ولامس صدره، تسمرتُ أمامه وكأني أنظر لنفسي في المرآة وأنتظر منها أن تشيدَ بجمالي، رفع يوسف يده اليمنى وأبعد الوشاح الأبيض عن شعري لينزلق على كتفي، وخلل أصابعه بين خصلات شعري وهو ينظر بعينيّ حتى وصلت كفه إلى خلف عنقي فاستقرت هناك، لم أستطع حبس تنفسي أكثر فأخذت نفساً عميقاً وكأني ارتحت من همٍ كبير كان يثقل كاهلي..
يوسف: (ما بك ؟ إنكِ ترتجفين.. لم أعهدكِ بهذا الجبن .. أأمسيتِ تخافينني الآن؟)
فأجبته بتحفظ: (أنت تعرف بأنني لست جبانة وأنا لستُ بخائفة منك.. ولكني أخاف من نفسي
فأنا.. أنا احبك يا يوسف وأخشى أن تقودني مشاعري لارتكب حماقة أندم عليها فيما بعد)
أمسك يوسف يديّ وأحاطهما بيديه وقبلهما، ثم قال: (أقسم أن أكثر ما كاد يقتلني هو شوقي لسماع كلمة أحبك تصدر عنكِ .. وأكثر ما كنت أخشاه في غربتي أن أعود ولا أسمعها)
شعرتُ بسعادةٍ عارمة حين قال ذلك فلم أستطع منع نفسي من البكاء، نعم لقد بكيتُ تلك الليلة فرحاً وخوفاً من أن تكون حلماً يزول بطلوع الشمس، وعندما رآني يوسف أبكي احتضنني بقــوة وبشغفٍ كبيرين إلى صدره، ليس باستطاعتي أن أصف مدى روعة شعور المرأة عندما تكون بين ذراعي من تحب ومن تعشق، بعد برهة، أبعدني عنه قليلاً ليقبل رأسي بحنان، وعيناي برقة ووجنتاي بجرأة، أبعد ثغره عن وجهي للحظة ليتسنى له النظر إلى عيني ثم قرب وجهه نحوي ليقبلني من جديد ولكن هذه المرة لم يضع شفتاهُ على وجنتي، بل اقترب من أنفاسي، وأكثر، أغمضتُ عيني، لم أستطع النظر إليه أكثر، شعرت بالخجل يتآكلني، وبنار اللهفة تحرقني، أقسم أنني حاولتُ التوقف، إيقافه، عدم الرضوخ، الرفض، ولكني لم أستطع !! لم أستطع، ولم أرد أيضا !
لا أعرف ما الذي دهاني، كنت كالعصفورة بين يديه يقيدني تارةً ويحررني أخرى، يشعلني كالشمعة، ويتركني لأذوب بنفسي دون أن يحرك ساكناً، بعدها يترك شفتيه لتسرقان من على شفتي قبلة.. قبلة!! لن أكذب، لم تكن مفردة أو زوج من القبل، ولكنها كانت أكثر سلاسل القبلِ روعةً فقد كان ينتقل بشفتيه من موضع لآخر أكثر شوقاً إليه دون توقف، مزيلاً كل العوائق التي تعترض طريق قبله بيديه، نعم قد جردني من وشاحي و ثوبي وأنا أقف بلا حراك، وكيف أحرك ساكناً وأنا بالكاد كنت أستطيع البقاء واقفة، لا بل بالكاد كنت أستطيع التنفس!!! فقد خالجتني أحاسيس لم أختبرها قط!! كانت مشاعري أشبه بكوني في غيبوبة، حيث أحس كل شيء ولكني لا أستطيع فعل شيء، شعر يوسف أنني سأرتمي أرضاً بأية لحظة لشدة تعبي فحملني بين ساعديه ووضعني على السرير، كانت ذراعي حوله ولم أبعدهما عنه بل ضممته إليّ بشدة وقبلته بحرارة، بشغفٍ بجنون وكأنني قد وجدتُ ضالتي بعد طول غياب، وشاركته تلك المشاعر التي لا يتشاركها حتى الأزواج فلم نكن معاً كجسدين فقط، بل كروحين أيضاً!!
كانت ليلةً لم نحلم بها نحن الاثنين، فقد اتحد فيها قلبينا وجسدينا وتعاهدا على البقاء كلٌ ملكٌ للآخر للأبد، دون أن يفرقهما إنسان، أو نسيان، وبعد مرور بعض الوقت فقدنا كل طاقتنا وفقدت الإحساس بما حولي، شعرتُ به فقط مستلقٍ بقربي، ممسكُ بيدي وغارقُ في النوم.
كنت أسعد إنسانة في الوجود، مع إنني كنت متعبة ولكني لم أستطع النوم، بقيتُ مستيقظة أتأمله، وأحدق به، أسترجع كل ماحدث بيننا من جديد وابتسم بعفوية، فيقطع حبل أفكاري صياح الديك المتبوع بأذان الفجر!! حينها فقط وعيتُ من غفلتي وطيشي عارية، مجردة من الثياب، ومجردة من الشرف، وتحولت بظرف لحظات من أسعد إنسانة لأتعس إنسانة على الأرض، كنتُ كمن كان في حلم جميل وصحا ليكتشف أنه أفظع كابوس حصل له بحياته .
كنت تائهة، لا أعرف ما العمل ، أأيقظه ؟ ولكن، ما أقول له ؟ هل ألومه ؟ أو ألوم نفسي ؟
لن يفيد اللوم الآن أيتها الغبية، لستِ غبية بل حقيرة ومجرد ساقطة تبعت هواها حتى أوصلها لحبل المشنقة، لا بل كنت عاشقة، سلمت حبيبها ما ملكت، يا إلهي أني أكلم نفسي، أجل لقد كنت أناقض نفسي، أحاول إيجاد مبرر لفعلتي، وحجةً تبعد الشعور بالخزي عني، كنت أتساءل هل أخطأت ؟ هل كان يجب أن أصفعه عندما حاول في البدء تقبيلي ؟ لا قبل ذلك، هل كان يجب علي طرده من غرفتي ومن شرفتي أيضاً ؟ هل كان عليّ طرد حبيبي الذي انتظرتهُ بفارغ الصبر وصرفه عن ناظري ؟ ما الذي كان يجب فعله ؟ أو ما الذي يجدر بي الآن فعله ؟
بدأت بالبكاء وهل للفتاة غيره من ملجأ، استيقظ يوسف مذعور: (حبيبتي .. ما الذي جرى لكِ؟)
ولكنني كنت بحالة هستيريا، لم أشأ النظر بوجهه، كنتُ غاضبة، مذعورة، حائرة، وأشعر بالخزي منه ومن نفسي
(يوسف .. كيف فعلت بي هذا؟)
وبدأت أصرخ بوجهه دون تفكير : (لمَ عدت .. ليتك لم تعد .. ليتني لم أرك.. ليتني متُ قبل أن أسمح لك بلمسي.. لقد رميت بأحلامي وآمالي عرض الحائط.. لقد دمرتني ودمرت حبنا الطاهر وجعلتني اشترك معك كالبلهاء بهذه الجريمة.. أتركني وشأني.. لقد آذيتني.. اذهب من هنا)
رفض يوسف الخروج من غرفتي قبل أن أهدأ، ونستطيع إيجاد حل للعنة التي حلت بنا، ولكن صراخي أيقظ أهلي فأتوا مسرعين يطرقون باب غرفتي مما اجبره على الرحيل قبل أن يكتشفوا أمرنا، وبقيتُ أنا ساعات أفكر، ما الذي فعلته ؟ لمَ قلت له هذا وطردت من أحببت طوال عمري ومن شاركته فراشي قبل ساعات مضت ؟
حينهاعلمتُ أن هذه المصيبة ليس لها حل حتى وإن أراد يوسف الزواج بي، فلن يقبل والدي أن أتزوج ممن عاد لتوه من دراسته ولم يجد عملاً حتى!! ولم تكن حالته المادية تسمح له بذلك، لن يرضى والدي بهكذا زيجة إلا إذا عرف بحقيقة الأمر، أن ابنته لم تعد تصلح للزواج بغير يوسف، كلا لا يمكن أن أفعل هذا بأبي فقد كنت مصدر فخره واعتزازه منذ صغري، لا أعتقد أنه سيحتمل الصدمة، أما أنا فلم أعد أطيق النظر بوجه يوسف حتى، وبقيتُ أياماً أنتظر هذا الشعور ليزول فأحاول الاتصال به، ولكنه لم يفارقني.
تلك الليلة.. لم تكن ملكاً لنا فقد سرقناها سرقة واستمتعنا بما هو ليس حقاً لنا به..
تلك الليلة.. لم توحد روحينا.. بل فرقتهما للأبد!!
ومنذ حينها.. رفضت الزواج بكل من تقدم لخطبتي، حتى تقدم بي العمر، وبقيَ يوسف هناك، بمكان ما منتظراً مني السماح، ولكن!! قلبي قد غرق..
ومرّ العمر، وانتهى الأمر، وبقيتُ وحيدة حتى جاء يومٌ فارق فيهِ يوسف الحياة وهو ينتظر مني السماح، ولكني لم أستطع مسامحته أو مسامحة نفسي يوماً، وبقيتُ بهذه الشرفة، لأنتظرَ المطر، فتعود لي الذكرى؛ لأنها كل ما تبقى لي من تلكَ الليلة، ومن عمري، وبقيت تنهمر الدموع، حتى يتوقف المطر!!!
ولكن ذكراه ستبقى مع بقاء هطول المطر!!!